وهم الإنتاجية: كيف أصبح الاحتراق معيارًا للنجاح؟

في عصر السرعة والإنجاز المستمر، أصبح الإرهاق رمزًا للنجاح، والاستنزاف الذاتي معيارًا للتفوق. يلهث الجميع خلف الإنتاجية بأي ثمن، وكأن الراحة ترف لا يستحقه الطموح. لكن هل هذا التصور دقيق، أم أننا عالقون في دوامة من المفاهيم المغلوطة التي كرّستها الرأسمالية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي؟

باتت ثقافة الاحتراق جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، حيث يُرسخ في الأذهان أن النجاح مرتبط بعدد ساعات العمل وليس بجودته. نرى شخصيات مؤثرة تتباهى بعدم النوم لليالٍ طويلة، وكان الإنجاز الحقيقي لا يتحقق إلا عبر الإنهاك التام. لكن الواقع مختلف تمامًا، فالإرهاق لا يزيد الإنتاجية، بل يدمّرها. تشير الدراسات إلى أن العمل تحت ضغط مستمر يقلل من الإبداع ويؤدي إلى نتائج كارثية، بينما البيئات الداعمة والمحفزة ترفع من جودة العمل دون الحاجة إلى استنزاف الصحة الجسدية والنفسية.
تكريس فكرة أن الراحة تعني الكسل خطأ فادح؛ الاستراحات ليست رفاهية، بل ضرورة للحفاظ على الأداء الذهني والجسدي. النوم الجيد، التغذية السليمة، والرياضة ليست كماليات، بل أساسات لاستمرار الإنتاجية دون أن تتحول إلى عبء قاتل. ومع ذلك، ما زالت الضغوط المجتمعية تفرض على الأفراد الشعور بالذنب عند التوقف للحظة، وكأن الإنجاز الحقيقي لا يكون إلا على حساب الذات.
إعادة تعريف النجاح أصبح ضرورة. فالإِنجاز لا يُقاس فقط بعدد المشاريع المنجزة، بل أيضًا بقدرة الإنسان على الاستمتاع بمسيرته المهنية دون أن يفقد ذاته. العمل بلا حدود ليس علامة على التفاني، بل طريق مؤكد نحو الإنهاك الجسدي والنفسي. النجاح الحقيقي ليس في عدد الساعات التي نقضيها منهكين، بل في تحقيق التوازن بين العمل والحياة، وبين الإنجاز والراحة.

إن ثقافة الاحتراق التي تُسوّق على أنها ضرورية للنجاح ليست سوى وهم قاتل. الحياة ليست سباقًا بلا نهاية، والاستنزاف ليس دليلاً على الطموح. الجسد والعقل بحاجة إلى عناية، وليس إلى استغلال لا نهائي. قبل أن نغمس في دوّامة العمل المستمر، تذكّر أن الإنتاجية الحقيقية لا تعني التضحية بالنفس، بل إدارتها بذكاء ووعي.